نوف الموسى (دبي)
شهد مهرجان طيران الإمارات للآداب 2019، مساء أمس، احتفالية متفردة بالشعر الإماراتي، تجسدت في قراءة نقاشية للمنجز الثقافي للشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي «فتاة العرب»، بمشاركة الدكتورة رفيعة غباش، إحدى أبرز الوجوه الثقافية والعلمية في محور تعميق البحث الأدبي والإبداعي لـ «فتاة العرب»، والدكتورة حصة لوتاه، في محور التناول الاجتماعي والثقافي والفكري للدور المحوري للمرأة في الإمارات، عبر المنتج الأدبي، وتحديداً القصيدة، وأدار بحور ثقلها وتنامي تفاصيلها في اللغة لدى عوشة بنت خليفة السويدي خلال الجلسة، الباحث في التراث والشعر فهد المعمري، مدير إدارة الآداب بالإنابة في هيئة دبي للثقافة والفنون، مشكلين جميعهم فرصة استثنائية لتعميق المفهوم الإنساني للغة الشعرية في تكوين المجتمعات، وآلية إيصالها لمتذوقي الشعر في العالم.
وتمتلك الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي، حراكاً اجتماعياً بأبعاد متفردة ذات مكنون شعري قادر على تحويل أغلب ما طرحته في قصائدها إلى أسئلة ملحة، حول المرأة ومكانتها في حقبات سابقة اتصلت بالتشكل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للبيئة المحلية، إلى جانب آرائها وموقفها من الشعراء أنفسهم، وهو ما أوضحته الدكتورة رفيعة غباش أثناء بحثها المستمر عن لقاءات قديمة لـ«فتاة العرب»، في محاولة لإدراك الوعي المتقدم لدى شاعرة عرفت بمكانتها الرصينة وبزخم الإبداع اللغوي، الأخاذ، وبالعودة إلى أهم الإنتاجات الأدبية التي تبرز المضامين الشعرية لفتاة العرب، وقدمته في كتابها الموسوم: «عوشة بنت خليفة السويدي الأعمال الكاملة والسيرة الذاتية».
ولعل أهم ما يؤسس له اللقاء التفاعلي بين الدكتورة حصة لوتاه والدكتورة رفيعة غباش، من خلال منصة مهرجان طيران الإمارات للآداب، هو الانطلاق نحو تأكيد مفهوم الدراسات المجتمعية القائمة على المنتجات الإبداعية، وطبيعة البيئات التي تشكلت عبرها تلك القريحة الأكثر قُرباً لما يود المتلقي العربي والعالمي استشفافه في القصيدة النبطية والفصيحة، والتحول بـ «التراث»، إلى ممارسة فكرية معاصرة، تتجاوز التوثيق التاريخي، وصولاً إلى «تجذر» إنساني ممتد عبر الحضارات.
من جهة أخرى، حظيت الورش العملية بنصيب الأسد من فعاليات نهار أمس، حيث قدم الناقد والكاتب العراقي جبور الدويهي ورشة «ملامح الهوية المختلفة»، وفي موازاتها قدمت ورشة بعنوان «ورشة الكتابة الإبداعية مع غريغ موس»، إلى جانب انعقاد ورشة بعنوان «الصفحة الأولى: ورشة الكتابة الإبداعية مع لويجي بونومي». كما شهد المهرجان توزيع جوائز مسابقة كأس شيفرون للقراء من المرحلة الابتدائية والثانوية.
وجاءت ورشة «ملامح الهوية المختلفة» التي قدمها الدويهي، مصحوبة بتطلعات نحو اللحظة التي تشهد فيها الرواية، انتعاشاً عربياً على مستوى الاحتفال المجتمعي، بقراءتها وتناوب تأويل تفسيراتها، وازدهار الوعي بقيمتها الفكرية والتحولية والتنويرية. وجاءت الورشة، كما أوضح الدويهي، لإضفاء حس «السخرية» من ما يود المشاركون التعبير عنه، في تجربتهم الأولى، في محاولة لإسقاط قدسية الهوية، وإعادة اكتشافها عبر الرواية.
ولا شك في أن البدء بـ «الأنا»، وإدراك مفهوم الانتماء عبر تفكيكه، يُسهل مهمة التجلي المغاير من قبل «المُجرِّب» في عالم الرواية، وربما، كما يرى الدويهي، لا يمكن تعليم أحد الكتابة، ولكن يمكن استفزاز الشخص لإعادة التكهن بما يمكن أن تثريه ذات الإنسان من قدرة عالية على الإبداع، فمثلاً، عندما سردت المشاركة «شيخة» (من الإمارات) حكاية كتبتها خلال الورشة عن علاقتها بجدها، وما واجهوه بعد نكسة اللؤلؤ، سألها الدويهي: ما هي ردة الفعل الأولى، عند صدمة حضور اللؤلؤ الصناعي، ما دفعها لتتأمل وقتها «الإحساس المتصل بثقل الديون لعائلة توارثت الصنعة، وفجاءة الشعور بتلاشي كل شيء».
وشكل استمرار مرور المشاركين بمواجهة ذاتية مع الورقة البيضاء، حالة من الهدوء تشبه الشخصية الرئيسة في قصة المشارك عبدالله (من السعودية) وهو يَرى التمرة الأخيرة لمزرعته التي باعها قبل قليل، وفيها يكشف عبدالله عن جده، وارتباطه بالأرض والنخيل. وفيما استكمل المشاركون تساؤلاتهم حول الهوية، أشار الدويهي إلى أنها التحرر الذي لا يشوبه ازدراء، بل انغماس عميق نحو البحث، مؤكداً أن الطريقة العملية للرواية تتطلب تجنب الشاعرية، التي عادة ما تبعد القارئ عن أرض الأحداث، مضيفاً: لا نمزج الشعر بالسرد، سيخرجنا ذلك عن التماهي مع تفاصيل الحدث، وإذا أردت مثلاً أن تتحدث عن شعور الـ «عتاب» لـ الأجداد أو ما يمكن تسميته بمستوى ثان من إحساس الانتماء، عليك بقول ذلك مباشرة، إلا أن إحدى المشاركات، وهي تصف عائلتها، استكمالاً للتدريب الذي حدده الدويهي للمشاركين، رجعت لتقع مجدداً في ما أسماه الدويهي بـ «الأطناب»، فيما استسلم بعض المشاركين في الورشة، كما ظهر خلال قراءة نصوصهم، إلى البعد التقريري وأحياناً الرسمي لطرح الانتماء العائلي، ما يطرح سؤالاً: كيف يمكن كسر نمطية الذاكرة، أمام منطقية العقل، ومحدودية التخيل، لما يمكن اعتباره يمثل الهوية؟!
وذهبت المشاركة أحلام (من اليمن) لما هو متقاطع بين مسقط رأسها في صنعاء وبين موطن أجدادها في «وادي جحاف»، لتلفت الانتباه أكثر حول ما ذكرته في قصتها من أنه كان يقال لها: «أنتِ هجره»، لأن أجدادها انتقلوا من شمال اليمن، واللافت أن «أحلام» عمدت إلى سرد الحكاية بشكل تفريغي لمضمون ما تعرفه، وهو ما علق عليه الدويهي بقوله: وضعت أحلام المواد الأولية على الطاولة، دونما صياغة للمكون الشعوري لكل تلك التحولات في حياتها.
أما «دينا» من الكويت، فشكل الاختلاف الثقافي لجدتيها زخماً محسوساً في طريقة إبدائها لـ «النكتة» في الحكاية التي روتها في الورشة، ومثلت المفارقة بين جدتها المتحفظة وجدتها الأخرى الأكثر تحرراً، مادة دسمة للتداول فيما يمكن أن تخرج به «دينا» من هذا التفاعل اليومي، بين شخصية تعتمد العُرف في وصفها للحياة، وبين شخصية تحب الحياة وتدفعهم نحو التغير.
دائماً ما يتم النقاش حول الأثر الذي يتركه التنوع الثقافي للوالدين حالما يتم التعرف على المرجعية الثقافية والفكرية لهما، والرواية قادرة على مكاشفة ذلك، بأبعاد أكثر سيكولوجية واجتماعية في إحداث الصراع والتغير.